هل ترى عندما أفتح عينيك؟

تتجلى عبارة “أترى حين أفقأ عينيك” في قصيدة “لا تصالح” للشاعر المصري “أمل دنقل”، والتي وُضعت ضمن ديوان “أقوال جديدة عن حرب البسوس”.

أترى حين أفقأ عينيك

ولد الشاعر محمد أمل فهيم محارب دنقل في قرية القلعة بمحافظة قنا. تزوج من الصحفية السيدة عبلة الرويني، وإليكم مقتطفات من تلك القصيدة:

المقطعين الأول والثاني

استلهم الشاعر كلمات هذه القصيدة من الوصايا التي نقلها كليب إلى أخيه الزير سالم، حيث تدور حول عدم التصالح. وفيما يلي مقتطفان من القصيدة:

(1)

لا تصالحْ!

ولو عُرض عليك الذهب،

أترى حين أفقأ عينيك

ثم أضع جوهرتين مكانهما..

هل ترى؟

إنها أشياء لا يمكن شراؤها،

ذكريات الطفولة بينك وبين أخيك،

حسُّكما الجديد بالرجولة،

هذا الحياء الذي يكبت الشوق عند المعانقة،

الصمت – مبتسمين – بسبب توبيخ أمكما

وكأنكما ما زلتما طفلين!

تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:

أنَّ سيفين سيفكَ،

صوتان صوتكَ،

أنك إن متَّ

للبيت ربٌّ،

وللطفل أبٌ،

هل سيصبح دمي -بين عينيك- ماءً؟

أتنسى رداءي الملطَّخَ

وتلبس -فوق دمائي- ثيابًا مطرَّزةً بالقصب؟

إنها الحربُ!

قد تثقل القلب،

لكن خلفك عار العرب.

لا تصالحْ

ولا تتوقّ الهرب!

(2)

كانت خلفية هذه القصيدة هي زيارة الرئيس الراحل محمد أنور السادات لمدينة القدس. نتيجة للظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة آنذاك، صاغ الشاعر كلماته كما يلي:

لا تصالح على الدم حتى بدم!

لا تصالح! وإذا قيل رأس برأس،

هل جميع الرؤوس متساوية؟

هل قلب الغريب يشبه قلب أخيك؟

هل عينا الغريب مثل عين أخيك؟

وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك

بيدٍ كانت سيفها لك؟

سيقولون:

جئناك كي تحقن الدماء،

جئناك، كن -يا أمير- حَكمًا.

سيقولون:

ها نحن أبناء عم،

قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك.

واغرس السيفَ في جبهة الصحراء

إلى أن يُجيب العدم:

إنني كنت لك

فارسًا،

وأخًا،

وأبًا،

ومَلِكًا.

المقطعين الثالث والرابع

كان الشاعر أمل دنقل يشعر بالحزن للانتكاسات التي مرت بها الدول العربية، وخاصة مصر، نتيجة الحروب. ودعا العرب إلى عدم التصالح مع الدول التي جلبت الحروب والدمار، كما يلي:

(3)

لا تصالح

ولو حرمتك الرقاد،

صرخات الندم،

وتذكَّر

(إذا مال قلبك للنساء اللاتي يرتدين السواد ولأطفالهن الذين تفارقهم الابتسامة)

أن بنت أخيك “اليمامة” هي زهرةٌ ترتدي – في سنوات الصبا – ثياب الحداد،

كنتُ، إن عدتُ

تعدو على درج القصر،

تمسك ساقيَّ عند نزولي،

فأرفعها وهي ضاحكةٌ

فوق ظهر الجواد.

ها هي الآن صامتةٌ،

حرمتها يد الغدر

من كلمات أبيها،

ومن ارتداء الثياب الجديدة،

ومن أن يكون لها – ذات يوم – أخٌ

من أب يبتسم في عرسها،

وتعود إليه إذا أغضبها زوجها..

وإذا زارها يتسابق أحفاده نحو أحضانه،

لينالوا الهدايا،

ويلهو بلحيته مستسلمًا،

ويشدُّ العمامة.

لا تصالح

فما ذنب تلك اليمامة

لتشهد عشيشًا محترقًا فجأة،

وهي تجلس فوق الرماد؟

(4)

لا تصالح

ولو توجُّوك بتاج الإمارة.

كيف تخطو على جثة ابن أبيك؟

وكيف تصبح الملكَ

على أوجه البهجة المستعارة؟

كيف تنظر في يد من صافحوك

فلا تبصر الدم

في كل كف؟

إن سهمًا أتاني من الخلف

سوف يجيئك من ألف خلف.

فالدم – الآن – صار وسامًا وشارة،

لا تصالح،

ولو توجُّوك بتاج الإمارة.

إن عرشَك سيفٌ

وسيفكَ زيفٌ

إذا لم تزنْ – بذؤابته – لحظاتِ الشرف

واستمتعت بالترف.

المقطعين الخامس والسادس

في هذه الأبيات، ينصح الشاعر الحكام بعدم الانسياق وراء الأفكار التي تتحدث عن الصلح مع المعتدين الذين يشعلون نيران الحروب، كما يلي:

(5)

لا تصالح

ولو قال من مال عند الصدام:

“ما بنا طاقة لامتشاق الحسام”،

عندما يملأ الحق قلبك،

تندلع النار إن تنفست،

ولسان الخيانة يخرس.

لا تصالح

ولو قيل ما قيل من كلمات السلام.

كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنس؟

كيف تنظر في عيني امرأة

أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟

كيف تصبح فارسها في الغرام؟

كيف تأمل غدًا لطفل ينام،

كيف تحلم أو تتغنى بمستقبل لغلام

وهو يكبر بين يديك بقلب مُنكسر؟

لا تصالح

ولا تتقاسم الطعام مع من قتلوك،

واروِ قلبك بالدم،

واروِ التراب المقدس،

واروِ أسلافك الراقدين

إلى أن تردَّ لك العظام.

(6)

لا تصالح

ولو ناشدتك القبيلة

باسم حزن الجليلة

أن تسوق الدهاءَ

وتُبدي – لمن قصدوك – القبول.

سيقولون:

ها أنت تطلب ثأرًا يطول.

فخذ -الآن- ما تستطيع:

قليلاً من الحق

في هذه السنوات القليلة.

إنه ليس ثأرك وحدك

لكنه ثأر جيلٍ فجيل.

وغدًا

سوف يولد من يلبس الدرع كاملة،

يوقد النار شاملة،

يطلب الثأرَ،

يستولد الحقَّ

من أضلاع المستحيل.

لا تصالح

ولو قيل إن التصالح حيلة.

إنه الثأر؛

تبهت شعلته في الضلوع،

إذا ما توالت عليها الفصول،

ثم تبقى يد العار مرسومة (بأصابعها الخمس)

فوق الجباه الذليلة.

المقطعين السابع والثامن

في هذه الكلمات المعبرة، يذكر الشاعر أنه إذا أمكن عودة الشهداء والأراضي التي دمرها الغدر والعدوان، فقط عندها يمكن التفكير في عقد الصلح، كما يلي:

(7)

لا تصالح، ولو حذَّرتْك النجوم،

ورمى لك كهَّانُها بالنبأ.

كنت أغفر لو أنني متُّ

ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ.

لم أكن غازيًا،

لم أكن أتسلل قرب مضاربهم،

أو أحوم وراء التخوم.

لم أمد يدًا لثمار الكروم،

أرض بستانهم لم أطأ.

لم يكن قاتلي يقول لي: “انتبه”.

كان يمشي معي،

ثم صافحني،

ثم سار قليلًا.

ولكنه في الغصون اختبأ.

فجأةً!

ثقبتني قشعريرة بين ضلعين،

واهتز قلبي – كفقاعة – وانفثأ.

وتحاملتُ حتى احتملتُ على ساعديَّ.

فرأيتُ ابن عمي الزنيم

واقفًا يتشفَّى بوجه لئيم.

لم يكن في يدي حربةٌ

أو سلاح قديم.

لم يكن في يدي سوى غيظي الذي يتشكَّى الظمأ.

(8)

لا تصالحُ

إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة:

النجوم لميقاتها،

والطيور لأصواتها،

والرمال لذراتها،

والقتيل لطفلته الناظرة.

كل شيء تحطم في لحظة عابرة:

الصبا – بهجة الأهل – صوت الحصان – التعرف بالضيف – همهمة القلب حين يرى برعماً في الحديقة

يذوي – الصلاة لكي ينزل المطر الموسمي – مراوغة القلب حين يرى طائر الموت

وهو يرفرف فوق المبارزات الكاسرة.

كل شيءٍ تحطم في نزوةٍ فاجرة.

والذي اغتالني ليس ربًا

ليقتلني بمشيئته،

ليس أنبل مني ليقتلني بسكينته،

ليس أمهر مني ليقتلني باستدارته الماكرة.

لا تصالحْ

فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندَّين

(في شرف القلب)،

لا تُنتقَصْ.

والذي اغتالني مَحضُ لص،

سرق الأرض من بين عينيَّ،

والصمت يطلق ضحكته الساخرة.

المقطعين التاسع والعاشر

يختتم الشاعر قصيدته بمقطعين يؤكد فيهما أن من يسعى لتحقيق الصلح ما هو إلا جبان، وينبغي على الحاكم أن يمتنع عن الانصياع إليهم، كما يلي:

(9)

لا تصالح

ولو واجهت سيفك كل الشيوخ

والرجال التي ملأتها الشروخ.

هؤلاء يحبون طعم الثريد وامتطاء العبيد.

هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم

وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ.

لا تصالح

فليس سوى أن تريد.

أنت فارس هذا الزمان الوحيد،

وسواك المسوخ.

(10)

لا تصالحْ

لا تصالحْ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top